رحيل في ظل الغياب
تأليف حريز مريم
في المعتقل هناك كنت أسيرا .. أسيرا بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. كانت
أياما سودا .. لا راحة ولا اطمئنان .. لم أعرف طعما للنوم الهنيء .. كنت
أفتقد لأبسط الأشياء .. تلك التي كنت لا ألقي لها بالا في أيام حريتي ..
رائحة الخبز الساخن .. تغريد العصافير في الصباح الباكر .. الملابس
الأنيقة النظيفة .. الطعام الجيد .. التعبير عن الرأي .. التحدث بحرية مع
الآخرين .. كلها .. نعم كلها .. بل وأكثر .. أيام أمر وأدهى من الجحيم ..
كنت أسلي نفسي بكتابة رسائل لأمي .. ثم قراءة ما تبعثه إلي .. كانت هي
المعزي الوحيد .. ولكنها للأسف انقطعت .. لم تعد أمي ترسل إلي رسائلها ..
بل ولم تعد حتى ترد على ما أرسله ..
وأتى ذلك اليوم الذي انقشع فيه الظلام .. حيث رفرفت الحرية بجناحيها ..
وطردت وحش العبودية.. نعم .. تحققت الأمنية .. تلك التي كنت أهتف بها ليلي
ونهاري .. عادت إلي الحرية .. وفتح الباب أمامي .. ولم يبق بيني وبينها
إلا أن أخطوا خطوة .. آه .. طالما حرمت من رؤية ضياء الشمس .. واستنشاق
الهواء الطلق .. عادت إلي الحياة من جديد .. صرت المتحكم الوحيد في نفسي
.. إلا أنه قد بقي لي شيء واحد لم أفعله .. أمي .. كم اشتقت إليها .. أنا
متلهف لرؤيتها.. سرت نحو البيت .. وإذا النوافذ مغلقة وعليها غبار كثيف ..
طرقت الباب .. لا مجيب.. قلت علها قد خرجت لبعض شؤونها وستعود .. انتظرت
وطال بي الانتظار .. حتى جن الليل وأنا جالس قبالة الباب .. لم تأت ما
بالها .. إذن اذهب إلى خالتي .. فلانة طرقت الباب فخرجت إلي وفي عينيها
تتبدى آثار دموع تريد أن تخفيها لكنها لا تستطيع .. ملامحها تبدي آثارا
للسهر وآثارا أخرى لهم نزل .. سألتها وليتني ما عرفت الجواب .. علمت أن
أمي ماتت قبل أسبوع .. نعم خطفتها يد الردى في غيبتي .. ضاعت علي سعادتي
.. وما بقي لي شيء في الدنيا يعزيني .. قد عشت ألوان الحياة لكن بقربها لم
أجد أحلى منها .. بدونها لا طعم للحياة .. وبقربها تصفوا كل الحياة .. هي
نبعي الجميل الملتوي ما بين دوح الصنوبر والغدير .. هي فجري البهيج الذي
غاب عني وتركني لظلام الليل الرهيب .. كانت هي القمر وأنا النجم .. كنا
نتلألأ في السماء .. نضيء الكون بسعادتنا .. كانت هي القلب .. وأنا الدم
الواصل .. كنا جسدا واحدا .. والآن .. ذهب النصف الأول .. فلا حياة ترجى
للثاني .. للأسف ضاع كل شيء ..
________________________________________
* * * * * * * * * * * * * * *