لوحة جديدة
تهزني الحافلة المهترئة في عنف ، تحاول أن تهز كياني ، وتصطك مصاريع النوافذ والأبواب بين الأزيز والأنين .. تغمرني نشوة حقيقية هذا المساء ، وتختلط مشاعر الراحة بالحرية ، وتصعد الحافلة إلى قمة التل فأشعر بانتشاء شديد يذكرني بتحليق الطائر إلى جو السماء ، حيث الأحلام والأماني .
أنظر بابتسامة إلى عيون المحيطين بي ، عيون مرهقة لا تأبه بي ولا بابتسامتي التي لا تستطيع احتواء تعبهم وألمهم من جراء قضاء يوم عمل طويل .
أتأكد من وجود الورقة في حقيبتي ، " أخاطبها " : هل كانت حريتي مرهونة بك أيتها القصاصة ؟ لقد كنت التحدي الحقيقي في حياتي ، فما أجمل أن يكون المرء حرا في كل شيء ..
تخلصت أخيرا من مكائد زوجة أبي ، تلك الحية الرقطاء التي صرت أكره حتى ذكر اسمها ، وأبي الذي صار كالعصا في يدها تحركها أينما شاءت .. ولا حتى هؤلاء الذين كانوا يبتسمون باستهزاء ويقابلونني كل يوم في شوارع الحي ، تلك النظرات التي تنطق باستهزاء خبيث بأني البطة السمينة .
كنت أشعر أنه بقيت لي لذة وحيدة في هذا الكون الشاسع ألا وهي لذة الأكل ، ولم أنتبه لنفسي إلا وقد صرت لا أستطيع المرور حتى من باب بيتنا .
تنبهت لتوقف الضجيج وسكوت المحرك وحثيث الكتل اللحمية في الاندفاع خارج هذا القبر الذي قبرونا فيه كما تقبر السردين داخل العلب .
وفي كل خطوة أخطوها أتساءل " هل الطريق التي اخترت عبورها بنفسي صحيح؟ وهل قراري صائب ؟ ، وهل أستطيع مواجهة المستقبل ؟ " ، أسئلة لا تكف عن الصراخ في وجهي البشع .
كانت نسائم السعادة تداعب أغصان حياتي عندما كنت بالقرب من مرفأ دافئ يدعى صدر الأم ، تلك التي كانت تغمرني بفيض حنانها منقطع النظير ، واستمر جمال لوحتي ردحا من الزمن إلى أن جاءت ساعة الصفر ، حين كسرت لوحتي بموت أمي ، وتلاشى ذلك الوجه من صفحة الواقع المرير وأصبحت كلمة أمي كطائر تائه يخرج من حنجرتي ولا يجد أذنا يحط عليها .
وازدادت مأساتي حينما فقدت والدي ، ليس عن طريق الوفاة وإنما لما تزوج بثانية من أشر خلق الله ، وهيهات أن تقوم مقام أمي ، وسعت سعيها الحثيث من أجل أن تقذف بي خارج العش الذي أمضيت فيه من العمر عشرا بأيامه و لياليه.
حملت جعبة أحزاني ولملمت آلامي متجهة إلى بيت جدي ، وبقيت زمنا وأنا أتسلق العمر حتى يكبر معي الحرمان الذي صار يخيم على كل شيء في حياتي ، وانقرضت متعتي من الدنيا إلا لذة وحيدة غدوت ألجأ إليها ، وهي لذة الأكل .. فكل ما حولي مرير إلا هي .
وتساقطت أسهم السخرية من كل اتجاه تنخر جسدي ، وتثقب قلبي ، وتسيل من جفني دما بدل الدمع ، لأن السمنة احتلت مكانها في بدني فطردت عني الأناقة وبقية من الجمال زالت ..
هل من ذنب أذنبته في صغري حتى تذهب عني ريحانة قلبي وتحل محلها أفعى سموم ، وترحل أيضا جدتي إلى قبرها بعد أن آوتني في حضنها خمس سنين ، وخالاتي إلى دور أزواجهن ، وجدي الذي صار يقسو علي أيما قسوة ..
وذات يوم كنت نائمة واستيقظت على صوت رجل ، فخرجت مذعورة من غرفتي فإذا بأبي وجدي يتحادثان ، أبي الذي لم أره منذ سنين عددا ، نسيت كل همومي وأسرعت لأعيش أجمل لحظات عمري في أحضانه ، أحسست أن الدنيا قد ابتسمت لي أخيرا ، لكنه فاجأني ، قال بأنه يريد تزويجي من ابن عمي ، رفضت بشدة ، لكن هيهات أن يكون الأمر بيدي ، زوجني في أقل من أسبوع إلى شخص لا يعرف للمحبة والوفاء معنى ، ولا يدرك شيئا من أساسيات الحياة سوى النوم والسكر .
لم يكن مطلبي عليه بعسير ، طلبت أن ينسيني همومي بحنانه ، أن يعوضني ما فات، لكن دونما جدوى ..
لم أستطع البقاء هناك ، محال أن أستمر في بيت يجمعني وإياه ، فاخترت أن أغادر فاخترت خربة مهجورة تضم بقايا جسدي الذي لا يصلح لشيء ما ، ولا لشظايا نفسي التي لن تجمع أبدا ، سكنتني أشباح متحركة ومواء قطط تتخبط في ظلامي ، وتغور بقايا دمي في رأسي الثقيل .
أتقلص ، أتمدد ، أتكور كصرصور ميت ، ورائحة جسدي العفنة تفوح في أنفي الشاسع الذي يحتوي العالم بأسره .
أشعر بالغثيان من جنس الرجال ، دائما هناك رجل يخذلني ، يغتصب عجزي ، يرمي بجسدي مرارا وتكرارا على الجدران الإسمنتية ، والكراسي الحديدية ، ويسحق فخاري ويدوسه بقديمه ... ولا أسأم ضعفي ، فأنهض من جديد وأجمع بقايا فخاري ، لم أشعر بالتمرد هذا اليوم ، لم يجتاح فكري جنون ما دمت أستطيع ترويضه منذ عقود طويلة ، لم أشعر وكأني مدينة تصطك ثناياها من الضجيج ، ملوثة بالفوضى ، وتدور في فلك الإهمال واللاشيء ....وسأرسم اليوم لوحة جديدة تقاوم الكسر والإهتراء ..